بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 27 سبتمبر 2009

فقدان لذة النص



إهداء:  إلى شيخي أبي مسلم الرواحي سلام عليك في أي جسد كنت الآن

ملاحظة: عندما أستخدم صيغة المخاطب المذكر فإنني أعني أيضا المخاطب المؤنث ، من الصعب جدا استخدام الصيغتين معا لأن المقال سيبدو مربكا وربما تشوشت الفكرة ، لذلك أنا أعتذر فهذه هي إكراهات اللغة .

المقال:
لشاعر عمان العظيم أبي مسلم الرواحي بيت كان يخترق أرواحنا عندما كنا صغارا ونحن نتلمس مفردات العالم شيئا فشيئا،
نقي من غبار الأرض بيض ثيابنا
وتلك رفات الهالكين تطير
إن الشطر الأول الذي يسرد فعلا آليا (توقي الغبار) ينفتح على جملة شعرية صادمة تجعل مئات الأجساد الهالكة تبزغ فجأة في طرف دشداشتك ، يفترض النص علاقة انفصال بين الأحياء والأموات ، ثم يقيم على أساسها علاقة اتصال من نوع استعاري ، هناك بالتالي أحياء يجب أن لا يتلبسهم الزهو لأن مصير الفناء المستقبلي يتطاير إليهم مع ذرات الغبار .
إذا استطعنا تخيل النص على أنه مقتطع أرضي ذو طبقات جيولوجية فإن تصوراتنا حول العالم ، وعلاقة الكائن بالكائنات ، تُشكل طبقة جيولوجية لا يمكن تصور وجود نص لا يحيل أو ينبني عليها ، سنسمي هذه الطبقة بالطبقة الوجودية أو طبقة "الحقيقة" ، تنبني الطبقة الاستعارية الشعرية عليها وتتخذ منها مسوغا لممارسة لعبة الدهشة ، سيبدو النص هنا ذو طبقتين فقط لأننا عن قصد سنتجاهل بقية الطبقات الأخرى كما أن استعارة علم الجيولوجيا فعل اختياري حتى لا أقول اعتباطي بمعنى أنه يمكن استعارة علوم أخرى للتعبير عن مركبات النص أيضا .
يقوم البيت على افتراض أن الأموات يتحولون إلى تراب ويبقى هذا التراب بعيدا عن الكائن الحي طالما داوم على الاغتسال ، وهي الحقيقة ذاتها التي يبني عليها الخيام أحاديثه مع القدور ومع جدران الطين ، يحاول هذا المقال أن يناقض هذه الحقيقة ، إن بيت أبي مسلم لم يعد صالحا للتبني ، إن اللذة القائمة على بروز هذا التناقض بين الحي والميت تتلاشى لحظة أن تدرك فكرة "وحدة الوجود" القائمة على المساواة بين الوردة والحجر في تركيبها الذري ،، إن الهواء والخشب وشفتي طفلك الدائم الصراخ تتكون من العناصر ذاتها ، وحتى نقرب الفكرة نستطيع تشبيه المسألة بالكلمات والحروف الأبجدية ، فرغم أن كلمتي "قمر" و "رمق" ذاتا شكلين مختلفين إلا أنهما تتركبان من نفس الحروف وهكذا يكون الماس والفحم والأشجار والحيوانات كلمات في أبجدية الطبيعة ،جسدك كلمة في هذا النص الذري ، وإذا فضلت أن تقول جملة فإن ذلك ممكن أيضا.
لنقل إن البيت الشعري لا يتواءم مع الطبقات الجيولوجية التي يقترحها المقال ولنقل أنني أحاول الذهاب أعمق في إعادة تركيب العلاقة بين الكائنات الحية والميتة.

ما سنناقشه هنا بالتالي ليس الشعر بل الطبقة السفلية للنص ، طبقة التصور الوجودي للحقيقة والعالم والأشياء من حولنا ، الحقيقة المقترحة التي يمكن أن تنبني عليها نصوص شعرية أخرى جديدة تتوافق مع تصوراتنا عن الإنسان ، وبما أنه لا بد لكل حقيقة من الاتكاء على شرعية ما فإن هذا المقال يستعير العلم الطبيعي للوصول إلى إعادة تركيب هذه العلاقة .

إن المفارقة تبدأ من فكرة أن جسدك الذي يمتد زمانيا بضعة عقود يتكون من ذرات قديمة جدا ، لا بد بالتالي أن تكون هذه الذرات في مكان ما قبل ولادتك ، في مكان ما من الكرة الأرضية على التحديد لأن كتلة الأرض لا تزيد (ثابتة تقريبا) ، والمعادلة هنا سهلة وبسيطة ففي اللحظة التي تزيد فيها كتلة جسدك تنقص فيها كتلة الأرض ، بحيث تبقى الكتلة الكلية ثابتة.

عندما تقضم تفاحة مثلا فأنت تسمح لأجزاء التفاحة أن تصبح جزءا منك ، إنها علاقة قائمة على الحب ، تستضيف هذه الكائن الأحمر في جسدك ثم تخلق علاقة تماهي بينكما، وبما أنك كائن مدني تحس أن الحشرات والكلاب والقطط لا تصلح أن تنتقل إلى جسدك لذلك ترفض التهامها ، لكن التفاحة لا تفكر بهذه الطريقة ، دعنا ندرس "النَسَب الذري للتفاحة" أو قل لنسرد هذا السياق الممكن ، يموت فأر صغير تحت شجرة تفاح ،لا أحد يكترث عادة بموت فأر سوى الأطفال أوالبكتريا والفطريات ، وهذه الأخيرة هي ما يهمنا ، تقوم هذه الكائنات الدقيقة بتفكيك الروابط العضوية في هذا الكائن المنقرض ، لنقل بلغة سهلة يتحلل إلى عناصر أولية ، مفيدة لشجرة التفاح التي تمتص هذه العناصر لتكوين تلك التفاحة الصغيرة التي وقعت بين يديك ، وبالتالي هل هي ذرات التفاحة التي تسكن جسدك الآن أم ذرات الفأر ؟ ، بعد سنوات تتحول بدورك لكائن ميت يعيد هذه الذرات إلى شجرة أو إلى الطبيعة ، فأر .. تفاحة ..إنسان ..شجرة ..ثور .. إنسان..سمكة .. إنسان .. تمارس الذرة رحيلا مستمرا وتنتقل بين أجساد عدة وهكذا تمتلك كل ذرة في جسدك تاريخا ، ولا يعود هناك أي فرق ذراتي بين جسدك والغبار من حيث التاريخ والمنشأ، وسندرك حتما ونحن نوسع بيت أبي مسلم أنها رفات الهالكين تقي نفسها من رفات الهالكين.

إن رفات الهالكين السالفة الذكر لا تنتهي إلى التراب ، لا يشكل التراب سوى جزء من رحلة العودة إلى جسدك مرة أخرى ، جسدك الذي هو عبارة عن بقايا كائنات ميتة وقديمة ،(لا معنى بعد ذلك للدهشة القائمة على الانفصال) ، تعودت النظر إلى جسدك باعتباره كتلة منفصلة وهو ما يوحي به الحس المباشر، وربما كان غرورك المبرر باللون أو العرق يسوغ لك هذا المعنى ، غاضا بصرك عن أن هذه الكتلة الآخذة في النمو على هيئة دالة تربيعية سالبة تُقتطع من أجساد كائنات أخرى ، جسدك الذي تم استعماله مئات المرات من قبل كائنات قديمة ومنقرضة ، إن المسألة برمتها فعل اقتصادي تمارسه الطبيعة على ذراتها تماما كما يحدث عند إعادة تحلية مياه المجاري لتصبح صالحة للاستعمال مرة أخرى دون أن تفقد شيئا من طبيعتها ودون أن تحمل شيئا مما يخص المرحلة السابقة.

قلنا أن النص يفترض علاقة انفصال بين الأحياء والأموات ، وهذا بالذات ما يجعل لذة النص القائمة على التلبس بالصدمة تنهار وتفقد هيمنتها ، إن علاقة الانفصال هذه غير "حقيقية" ، يصبح النص عندها تاريخا يقرأ حسب معطيات عصره ، ولا يخلق اللذة على الأرجح إلا في حالتين ، إما أن المتلقي يتبنى أفعال التلذذ الأدبي عن طريق دغدغة الذاكرة أو ينتمي إلى عصر معرفي سابق وهو إذ ذاك سادر عن التو واللحظة وعن رؤى العصر.


ملاحظة :لم يعد هناك مبرر لاحتقار الكلب الذي يعوي تحت النافذة هذا المساء مقلقا نومك ، فربما تشاركتما ذرات الكائن المنقرض منذ أعوام ، يعمل العلم الطبيعي هنا بسبب طبيعته التجريدية على تهشيم البنية الطبقية الاجتماعية المستندة على معارف قديمة فهو يكشفنا أمام أنفسنا ، ذلك الاتصال الحميمي بين الكائنات . كان من الممكن أن أجعل عنوان الحديث "في هجاء الطبقية" لكن ما يشغلني أكثر هو شيء آخر : تلك العلاقات القائمة بين أعلى النص وأسفله.

ليست هناك تعليقات: