بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 سبتمبر 2009

دفء ينام على شرفة من بياض

دفء ينام على شرفة من بياض

أمد يدي نحو مرج من اللوز
والسنديان الصغيرْ
نحو حقول الأرز المبلل في القلب
ولا شيء يحملنا نحو ضوء المجرة
غير التباسات عشقٍ
ينام كما زهرة من شهيق الندى
تمزقنا قبلةٌ أي شيء يلم النوارسَ
عند اشتعالك كالبحر فوق الضفاف

الأحد، 27 سبتمبر 2009

بحث

بحث

أدرك أنك
في لوزة من كلامٍ
وفي شهقة من مدى
وفي لهفةٍ حين ينمو الحريق على ناهديكِ
ويحترق الشمع في شهوة لا تنام

ابتكار

ابتكار

 سأبتكر امرأة من صدف البحر
               وأمنحها عطرا وقحا
   وأرش على عينيها طنا من أسرار السحرة
ولأني سأموت من العشق
                سأمنحها أيضا                          
                     قلبا يشبه قلب نبي
ولأني أرجع طفلا بين ذراعيها أمنحها
            جبلين من العطف
                وتلا من قلق العشاقْ


الظاهرة عبر المنظومات المفاهيمية المختلفة ... المغيّب في عُمان مثالا



القرية

  كانوا يتحلقون حول الجدة، عيونا مفتوحة وأفواها صغيرة فاغرة، وفي الجو تتلبك رائحة التوجس، قالت الجدة أن تلك التي كانت في العشرين، مثل زهر البوت لم تمت، رغم أنهم على الأكف ساقوها إلى المرقد الأخير، وأن ما حملوه لم يكن سوى جذع شجرة أفلح الساحر في تمويهه، أما هي فكانت ترقب من البعيد عاجزة عن الحركة أو الصراخ خلف شجرة أراك، وبعد أن تمت مراسم الدفن وقفل الجمع إلى القرية، حملها الساحر لتكون ملكا له، مسلوبة الإرادة إلى أن يموت، موته هو خلاصها هي ، لن يطعمها الملح إلى الأبد لأن ذلك سيحررها، شاهدها البعض تعبر المقبرة في منتصف الليل، لمحتها الجدة أمام شجرة أشخر عند الفجر، لجأت أمها إلى الشيخ العارف الذي ناهز المائة، لكنه أحجم عن مساعدتها، قال إن عادت الآن ستكون بلا عقل، أسوأ حالا من رضيع في الشهر الأول ، كان يتوجب عليها أن تتلو آية الكرسي والمعوذات كل ليلة، قالت الجدة حتى نتخلص من الساحر يجب أن نطعمه الزئبق دون أن نترك له فرصة لمس التراب، أخبر الصغار أترابهم في المدرسة الحكاية، وهم يتقمصون دور الجدة، يضيقون حدقاتهم قليلا ويضغطون على شفاههم حين يستدعي السرد ذلك، بعضهم كان يسأل كيف حمل الساحر الجذع والبعض أخبره كمن شهد الواقعة عن الجني الضخم الذي يخدم الساحر، ادعى أحدهم في اليوم الثاني أنه شاهد مغيبا ينظر إليه من النافذة بعد أن هجعت الأعين، في حين ندب صاحبه سرا استغراقه العميق في النوم،،، تلك هي القرية.

الساحر

  في مكان ما، في الساعة الثالثة صباحا ، وفي شيء يشبه الطقس المقدس ، بدأ الحفر ، بعد ساعة استخرج عظاما عليها بقايا متعفنة ، أعاد القبر إلى وضعه ورحل.لقد أمضى سنوات يتقرب فيها إلى العالم السري بمختلف المعاصي والموبقات، وضحى بأحب أقربائه إليه؛ طفلته الحبيبة، بدا دماغه مليئا بقاموس ضخم من الأسماء الغريبة والمخيفة، والطقوس السرية، وعندما ينظر إلى الأشياء فإنه يبصر كائنات لا يبصرها الجهلة .
في ما يشبه مغارة مهجورة بدأ بسحق العظام في نسق شعائري مهيب، وإلى جانبه كانت هناك أوانٍ صغيرة،  بها مواد مختلفة، نباتات وأسماك غريبة وضفادع وأشياء أخرى، بالنسبة لمراقب خارجي هو أشبه شيء بكيميائي حذق من عصور ما قبل التاريخ.
في اليوم التالي يدس شيئا من المستحضر في خف ضحية كان يراقبها منذ أيام بعناية وحذر، فجأة تصاب الضحية بانهيار، بدا جليا أنها تعالج سكرات الموت الآن، يجتمع الأقرباء حول جسدها المتخشب الذي فارق الحياة، ويبدأ البكاء وبالطبع شعائر الدفن التي سريعا ما تنتهي.
لاحقا يعود الساحر بعد أن تهدأ الأجواء، يستخرج كنزه، وقد حانت اللحظة التي يثمن فيها عالم الجن والمردة ولائه، يطعمها من عجينة تسكنها الشياطين، فيبدأ الميت بالعودة إلى الحياة، مهزوزا مشوشا، عندها فقط يصبح ملكا للساحر، عندها فقط يصبح مغيبا.

كيمياء

  يستخدم "الساحر"  مستحضرين، الأول لتحويل الضحية إلى جثة والثاني لإعادتها مسلوبة الإرادة إلى الحياة، بعد فحص مخبري وُجدَ أن المستحضر الأول يضم عدة مكونات، بقايا جثة متعفنة، مسحوق من شجرة الموكونا، جلد ضفدع، وأجزاء من سمك يعرف بالسمك الكروي، وأشياء أخرى ، وبالطبع تختلف هذه المكونات بحسب الجغرافيا، جميع هذه المواد تحوي سموما ، ومواد مهلّسة، ما يهمنا هنا هو السمك الكروي السام،

المصدر
ستكون السموم الأخرى بمثابة مساعد له، يحتوي جسد هذه السمكة على سم عصبي يسمى تترودوكسن (Tetrodotoxin) ، يستهدف هذا السم بعد امتصاص جلد الضحية له قنوات الصوديوم في غشاء الخلية العصبية، ويقوم بسد هذه القناة، أما الأعراض التي تظهر على الضحية فإنها تبدأ بتنمل في الشفاه، وخدر في الوجه ، صداع وتعرق ، ثم فقدان القدرة على الحركة ، وانخفاض في معدل التنفس ودقات القلب إلى أن يصل الجسد إلى حالة التخشب والعجز عن الاستجابة لأي مؤثر خارجي وفي حالات كثيرة يظل الضحية واعيا بما يدور حوله حتى فترة قصيرة جدا قبل الموت ، بالطبع إذا مات الضحية فما من سبيل إلى عودته وهنا تأتي مهارة الساحر في احتساب المقادير حسب التعاليم التي توارثها عن الأجداد.
  بعد أن يستخرج الساحر الضحية من القبر يأتي دور المستحضر الثاني والذي يستخرج من نبتة الداتورا

المصدر

والتي تحوي نوعين من السموم القلوية المعروفة : السكوبولامين (Scopolamine) والأتروبين (Atropine) .يستخدم الأتروبين - والذي هو من نفس عائلة الكوكايين - كترياق ، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالسموم العصبية، هو مستخدم من قبل الجنود الأمريكان كجرعة شخصية (Autoinjectors) في حالة التعرض لأسلحة كيماوية/عصبية .
  إن زيادة الجرعة تؤدي إلى اختلال في النبض، ودوار وغثيان، وتشوش في الرؤية وفقدان التوازن، والهلوسة وزيادة الاستجابة للمثيرات الخارجية ، ومن المعروف أن الأتروبين أيضا علاج لحالات خاصة من تدني مستوى نبضات القلب ، وبالعموم فإنه من الواضح أن هذا السم القلوي ينتج تأثيرات معاكسة لما يولده سم السمك الكروي ذو الطبيعة البروتينية .
أما السكوبولامين فمن المعروف أن الجرعة الطبية الزائدة منه تسبب حالة من الذهول والتخيلات والضلالات بالإضافة ما يعرف طبيا والترجمة لي باضطراب الوعي أو الهذيان (Delirium) وهي حالة من انحدار التركيز وتشوش الوعي وعطب في الذاكرة من أعراضها مثلا انخفاض الخوف من الأخطار الخارجية المحيطة بالإنسان، وتلك أعراض تظهر على المغيب.
إن هذا النوع من السمك - ويا للمصادفة - منتشر في السواحل العمانية، وهو يُدخل الماء أو الهواء في جسده المرن لدرجة التضخم إلى شكل يشبه الكرة، أما نبتة الداتورا الموجودة أيضا هنا في الوطن فتحمل سيقانها كرات خضراء شائكة، تتفجر بالبذور بعد النضج.

قراءات

  يتحدر السحري من أصل أقدم من الديني، لكن بينهما أمور مشتركات، تتعلق على الأرجح بسمات تطورية، يقدم السحري نفسه بلغة دينية، صحيح أنه ينتمي لضفة الأعداء، لكنه يستخدم نفس القنوات الإعلامية ، ويستهدف الشريحة ذاتها، وهو من أجل ذلك يستعير اللغة والمفاهيم ويقعّد لنفسه من نفس المشكاة، هكذا يصبح مفهوما أكثر، لكن الديني لا يكف عن التنصل والاستبعاد بلغة هجائية أحيانا ووعيدية أحيانا أخرى، وهو في كل ذلك يمنحه اعتراف وجود، ويمد وجوده بمسوغات مفهومية، تتكشف علاقة الديني بالسحري عن طبيعة جدلية فمن حيث يثبت وجوده يسحب عنه شرعية الوجود، بالإيجاد أولا والإعدام لاحقا يرسم الديني موقفه المعلن .
  يتقاسم السحري والديني اللغة بصورة مجحفة، فالأول يحصل على الغموض والنبذ والظلمة والخلاء والقبح والأماكن المهجورة والشياطين والجحيم، في حين يحتفظ الديني بالنور والجماعة والحب والصفاء والحفظ والجمال والملائكة والجنة.
  يدعي الساحر قدرته الفائقة في الاتصال بالعالم الغيبي ، قبائل من الجن والشياطين والمردة والعتاة، ويطلع على الأسرار والخفايا، وينسب لنفسه قوة الكلمة التي أثبتها الخالق لنفسه، وإذا كانت المسألة مسألة طقوس يبتكر طقوسه المضادة وأوراده الشيطانية، تجذبه الأماكن المهجورة والمظلمة، السحري يسكن في العتمة، وحينما تكون العتمة تنقص قوة الإبصار وتتشوش الرؤية، مما يعني نقصا في المعطيات، وبالتالي أفقا ثرا للتكهنات الواسعة والتخرصات المُحاكة، وهنا بالتحديد تتفلت الخوافات الجمعية من عقالاتها، يعبر الشعبي عما يؤرقه ، ويستزرع حقلا دائم التفجر ، ويختلط الفضول بالخوف، والفجيعة بالأمنية، وهكذا تغذي علاقة الديني بالشعبي المخيالَ السحري، السحري الذي لا يُظهر نفسه ولا يتكلم عنها أمام الملأ أبدا.
  يلج الكيميائي أرضا شديدة الغرابة، ويعجز عن امتطاء اللغة ذاتها، القادمة من عصور ما قبل الخلق، لا يمكن إدخال جني إلى المختبر، ومزجه بالمحاليل، لا وجود لشيء خارج روابط الطاقة بين السالب والموجب، لا شيء اسمه عالم سري أو روحي، وبين الحدث وأخيه تقبع سببية وحتمية قاهرة، لا تتصرف الذرات كالعفاريت ، ولا تقوم بالمعجزات، ينتمي الكيميائي لفضاء آخر، وقد ينظر إلى معركة السحري والديني بازدراء وتعالٍ، وقد يشكك في الظاهرة ويكذبها، وعندما تنتصب أمامه بعناد يشعر بالقلق، يطرح الأسئلة، ويجري التحاليل، ويفتح كراريسه المطوية بعناية، لأنها إما أن تُقرأ بلغته هو أو يؤرشفها حتى تواتيه اللغة، ذلك أن اللغة الغيبية كما يراها لغة واهمة ومزيفة، هو من علاقات منطقية يبدأ وبنتائج علائقية ينتهي.
  ينأى الديني بلغته، ويرسم مداراته حول الله والشيطان والملائكة والجن والحب والكره والخير والشر والجنة والنار، في حين يستنكف الكيميائي إلى فضاء آخر فيقرأ المادة والفرض والتجربة والنظرية والرابطة والتحول والتفاعل والطاقة.
  ليست القضية هنا هي من يقدم الحقيقة، ليست الحقيقة أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، بل السؤال كيف تلج هذه الظاهرة هذه الأرض أو تلك وبأي معنى تحاط وتقرن، كيف يخترق المغيب شبكات مفاهيمية مختلفة، يقف المغيب أمام بوابة المنظومة المفاهيمية الدينية فيُقرأ بلغة الغيب والإيمان والكفر ويلصق بالجن والملائكة ويعالج بالوحي والرقى النافعة ويفضي إلى التسليم والطمأنينة، أما عندما يتكوم قبالة الكيميائي فيغرس فيه أدوات الاختبار والتحليل ويلخص أبعاده في العلاقة بين جزيئين ويرسم له سيناريو منطقي ويخلص إلى نتائج، بقي أن الشعبي ليس سحريا ولا دينيا ولا كيميائيا بل شيء من هذا وهذا وذاك .

كائنات العدوي الفكرية : اقتراح النموذج



في عدد شرفات السابق رقم (285)  نشر المفكر العماني خميس بن راشد العدوي مقالا بعنوان "المتبقي في الفكر"، المقال المكتوب أدناه لا يأتي من قبيل مقالات الرد بل هو مقال معاضد للفكرة ، مشدد عليها.

غابة الكائنات
الأفكار هي تلك الكائنات البيولوجية التي تتحرك وفق محددات لينة مرنة، داخل الدماغ على الأرجح، ليس الإنسان من يفكر إن نحن ابتغينا الدقة، إنها تلك الغابة من الكائنات المتفاعلة داخليا، والتي تستمد طاقتها البيولوجية من الجسد، وسلوكها من طبيعة العلاقات الداخلية فيما بينها، وتمارس تغيرا دائما مع الزمن من خلال هذا التفاعل الداخلي من جهة ومن خلال التغذية الراجعة في اتصالها بالمحيط عبر قنوات الحس  من جهة أخرى. سأقترح هنا نموذجا قابلا للتعديل بالطبع، التعديل من قبل آخر حتى لا أقع تحت شرك المتبقي الذي لا أبصره، يصور هذا النموذج التفكير على أنه منظومة مفتوحة، والمنظومة المفتوحة هي مجموعة من العناصر أو الكائنات التي تربط بينها علاقات، وتستهلك المدخلات فيما تنتج بدورها مخرجات خلال عملية التطور الداخلي.

منظومة التفكير / البنية الداخلية
‌أ)             وحدات التفكير : تتكون منظومة التفكير من وحدات أساسية، هي الكائنات الفكرية، مثل فكرة القلم وفكرة الجري( إن لهذه الفكرة تركيبتها الداخلية أيضا كما أنها لا يجب أن تتطابق مع الواقع إنما يفترض بها الاتساق مع علاقات أو قوانين منظومتها).
‌ب)          العلاقات: تتفاعل هذه الكائنات من خلال علاقات محددة قابلة للتغير كما هو حال الوحدات الأولية، تحدد هذه العلاقات السلوك أو لنقل ناتج الاتصال بين وحدتين.
‌ج)           المنظومات الجزئية : تتجمع الكائنات الفكرية في عناقيد مترابطة، لتشكيل منظومات تفكير جزئية، مثل الخرافات والأخلاق والمنطق والنحو وأصول الفقه ونحوها،  تترابط هذه المنظومات بدورها لتكوين منظومة التفكير الكلية،وقد تعيش هذه المنظومات الجزئية متجاورة في سلام رغم التعارض المنهجي بينها مثل المنظومة التي تجمع الخرافات وتلك التي تعنى بالمنطق أو علم الأحياء مثلا، وهو ما يفسر جزئيا وجود علماء ذرة أو فيزياء ناجحين وهم في الوقت نفسه مخلصين مصدقين بالبوذية مثلا، ذلك ما يسميه البعض بالازدواجية.


منظومة التفكير / البنية الخارجية
‌أ)     الاستقبال: يتعرض الإنسان لعمليات ضخ مستمرة للبيانات من البيئة المحيطة، تدخل من قنوات خاصة هي قنوات الحس، تكون على هيئة شفرات خاصة تتوافق مع طبيعة القناة، أمواج صوتية (ميكانيكية) فيما يتعلق بالأذن أو كيميائية فيما يتعلق بالأنف، ما يحدث لاحقا لهذه الشفرات هو عملية ترجمة، تحويل إلى طبيعة تتوافق مع منظومة التفكير، وبالتالي يمكن معالجتها من خلال العلاقات باعتبارها كائن فكري.
‌ب)  الإرسال: بالطريقة ذاتها لكن في طريق عكسي يتم توليد كائنات فكرية، تترجم إلى طبيعة تتوافق مع القناة الخارجية مثل الحركة أو الكلام.


منظومة التفكير /آلية العمل
يخضع كل كائن فكري يدخل المنظومة إلى عملية قراءة أو تأويل تتحدد من خلاله أي منظومة جزئية ستعالجه، فالجلوس في صف الرياضيات مثلا يستدعي منظومة مختلفة عن تلك التي تستحضر عند الاستماع إلى عضة مهيبة من شيخ وقور، وإذا كانت هاتان المنظومتان من طبيعة متشابهة قابلة للتراسل المشترك والتأثر والتأثير فيما بينها فإن رؤية كلب عقور وأنت على قدميك تستدعي منظومة مختلفة تماما.
بعد دخول الكائن الفكري تتم عملية استدماج، يُضم إلى المنظومة أو يحل محل كائن سيتم استبعاده،وبالتالي يحدث نمو أو تغير في بنية المنظومة الجزئية كمّاً ونوعا، تقرأ المنظومة الكائن الداخل حديثا من خلال كائناتها وعلاقاتها، ولذلك تحدث عمليات الفهم المختلفة، فكائنات كل فرد مختلفة عن الفرد الآخر عادة، ومن هنا يحدث سوء الفهم أيضا. وللسبب ذاته تقوم عمليات الحوار والتواصل الدائم بين أفراد الحارة الواحدة أو بين الأصدقاء أو الفرقاء على تعزيز الشبه بين هذه الكائنات.
تقوم المنظومة الجزئية بعملية رفض للكائن الفكري عند اكتشاف عدم التوافق، مثلا عندما تقول لطالب رياضيات أن واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، أو تقول لأحد عُبّاد الشمس أنها مجرد كرة نار لا أكثر ويوجد منها الكثير في الكون، إن للمنظومة آليات دفاع تمنع من انهيارها، لا يفترض بها أن تكون منطقية، المهم أن تكون مقبولة ضمن قوانين المنظومة فقط لا أكثر.
عندما تعجز المنظومة عن الرفض ، بسبب وجود تعزيز من كائنات أخرى داخل المنظومة، يدخل الكائن الفكري إلى جسد المنظومة وإنْ في وضعية قلقة، إنه لا يلبث أن يصنع اهتزازات في بناء المنظومة أو ربما يفتح الباب السري لكائنات ستساهم لاحقا في عملية انهيار، المثال : من يبني إيمانا عميقا بشيء ما مستندا إلى قدوة ما، شخصية حية أو تاريخية، ثم يحدث ما يكشف له "خواء" تلك القدوة، إن ذلك ولا شك سيصيب منظومة إيمانه ذاك بانهيار ، وربما هزات لكل المنظومات الجزئية  ذات الصلة، وإذا كانت تلك القدوة تشكل إحدى قواعد المنظومة فقط فإن كائنا فكريا صغيرا سينمو هناك، وسيجبر المنظومة على إعادة هيكلة ذاتها إما من خلال الاستغناء عن تلك القاعدة وتدعيم بقاءها أو من خلال نقل القلقة إلى بقية القواعد تهيئة لانهيار مستقبلي.

الانهيار وإعادة البناء
 لا تلبث منظومة التفكير الكلية المتابعة للحدث من اكتشاف الفجوة الناتجة عن الانهيار، وبالتالي تحدث عملية بناء أو لنقل عملية ترميم فأي منظومة جزئية جديدة بديلة ستتخذ لذاتها نفس القواعد، أو أنها ستبدأ من حيث انتهى الانهيار، يعتمد ذلك على فداحة الانهيار. لا يحدث الانهيار لمنظومة التفكير الكلية، إن ذلك يعني الجنون الخالص، انفصال عن العالم كُليةً، أو الموت وتحلل الجسد الحاضن لهذه الأبنية البيولوجية.

حرب المنظومات
تتعايش المنظومات باعتبارها كائنات في المنظومة الكلية، لكن الفصل بينها ليس حديا كما يتبدى للذهن، إن بينها علاقات وبعضها ينبني على بعض، وقد تتشارك في بعض الكائنات الفكرية، وقد تجري على الكائن الفكري انسحابات وتغيرات ونمو واستقطاعات تبعا لتغيرات المنظومات الجزئية ونسب انهياراتها، تحدث أيضا عملية صراع بين المنظومات على تحديد المناطق المتنازع عليها في أرض الواقع ،مثل دوران القمر وموت الإنسان، هل يحدث لأسباب مادية أم غيبية مثلا، ونرى تمظهراتها الخارجية في ما يحدث بين المناهج المادية والغيبية والمناهج المزدوجة مثلا.

فناء المنظومات
إن هذا التغير  المتكرر مع الزمن الطارئ  على المنظومات في اتصالها المستمر بالواقع، وطبيعة التشويش التي تحدث عند انتقالها من كائن إلى آخر ، أو من جيل إلى جيل، سيؤدي حتما إلى فناء المنظومة بطريقة غير ملاحظة لتنشأ مكانها منظومات أخر، وذلك على مستوى الجماعة، مثلما نلاحظ في موت اللغات وتحور الأفكار الشديد عبر السنوات، ولذلك لا نجد مذهبا فكريا أو رؤية عقدية إلا وتحدث له تلك التغيرات التي تلغي بُنوّته للمصب المفترض، وأحسب أن ذلك من جماليات الوجود تلك الحركة الدائبة من الموت والحياة.

المتبقي
أين يقبع المتبقي فيما سلف من حديث؟ إنه هناك تستطيع رؤيته فيما أعجز أنا عن ذلك، لكن المتبقي الذي تبصره لن يبصره سواك، فهناك متبق لكل قارئ، أو هناك متبقيات بعدد القراء، والسبب أن لكل مفكر (إنسان أيا كان) منظوماته الخاصة المتكونة عبر الزمن كما أسلفت، ولأن الإنسان – وبلغة عدوية هذه المرة -  لا ينتبه إلى أن متبقيه يسهم في قراءة متبقي الآخر، وذلك ما يجعل المتبقي بال التعريف غير موجود أصلا إلا كما توجد كلمة إنسان ، يتعدد تماما كما هي الحقيقة تتعدد بتعدد المحقين، رغم أننا نتفق على تسميتها بالحقيقة.
أسوق هنا تحيتي الخالصة للعدوي، في ذمه البواح للجمود، الذي هو آلية من آليات المنظومات في الدفاع عن مبانيها، وفي إدراكه الجميل لحركة الزمن التي لا تتوقف.
إن الحوار الجمعي الدائم - كما أعيد هنا ما فهمته من مقال العدوي - يسهم في اكتشاف المتبقي (البنية الشعورية التي تتحكم في التفكير)، لكن ذلك يعتمد على الصدق مع الذات في بحثها عن متبقيها، إلا أنه ولا شك  يسهم في تجويع وضمور متبقي الجماعة، وبالتالي يمهد لعمليات الانهيار والترميم تلك العمليات الضرورية لا لنكون مستعدين للمستقبل بل لنسهم في صناعته.

أنا المثقف الأعلى




محاولة اجتراح تعريف تشبه الوقوف داخل غرفة لا نهائية الأبواب ، ذلك أن التعريف - أي تعريف - غرضي في الأساس ، إننا نختار الوجه الذي نحتاج إليه من أجل خدمة التحليل ، أو ربما وفي أحيان كثيرة من أجل خدمة توجهاتنا الأيديولوجية ، إننا ننطلق من قاراتنا المعرفية ؛ خبراتنا وانتماءاتنا واهتماماتنا المعرفية ، في بناء وتشكيل التصور ، وبالرغم من ذلك ومهما اتسمنا بموضوعية خارقة ، وتجردنا من كل تأثير خيّر أو شرير فإن التعريف يظل محتفظا بطبيعته الموجهة ، التي تحدد وتقصي .


أحاول هنا تعريف المثقف من خلال لغة فرويدية ، لكن في سياق يمتد باتساع ، ما يحدث بالتحديد هو عملية ربط بين تصور خاص للظاهرة وفهم معين للتحليل النفسي الفرويدي ، وكنتيجة لذلك فإن التعريف يستبعد بعضا ويضيف بعضا آخر ، وهو بذلك يعلن عمليات إقصاء وتلك هي – كما قلت – طبيعة كل تعريف ، إنها تقصي بقدر ما تحدد .


بالطبع فإن شقي العملية التي أقوم بها هنا التصور الخاص والتفسير الفرويدي يأتيان عبر طرق لا بأس من ذكر إشكالاتها هنا للأمانة ، ذلك أن التصور الخاص للمثقف يأتي من قراءات معاصرة وتاريخية ومشاهدات في المجتمع المحلي وتجارب ذاتية لا من جداول إحصائية صارمة ، أما فرويد فيأتي من ترجماته العربية وبعض المصادر الإنجليزية الالكترونية ما يعني فقدان الاتصال بالأصل ، كما أنه لا يلقي بالا للتعديلات اللاحقة التي وضعت على أيدي مفكرين لاحقين.


لقد واجه فرويد ما يمكن تسميته بـ"النظام المعتم" (الإنسان) ، حيث تبدو الظاهرة خفية مغطاة لا تمكن مراقبة آلية عمل أجزاءها الداخلية ، لكن يمكن تحديد المدخلات (الخبرات) والمخرجات (السلوك) ، في هذه الحالة يلجأ المنظّر إلى بناء نموذج ، النموذج عبارة عن جهاز مفهومي يستهلك وينتج نفس القيم إلى حد تقريبي لكنه لا يشبه بالضرورة التركيبة الداخلية الحقيقية للظاهرة ، وتعتمد بنيته على الخبرات السابقة للمنظّر ، بالنسبة لفرويد يبدو أن علوم الفيزياء والديناميكا الحرارية ومفاهيم التطور تشارك بحصص أساسية في بناء هذا النموذج ، حيث تظهر أمامنا ثلاثة أنظمة تتبادل الطاقة ومبادئها وتتشكل بها وتنتج السلوك البشري من خلال تفاعلاتها.


أنظمة متداخلة

يخرج الطفل إلى العالم – حسب فرويد – بنظام نفسي وحيد يسمى "الهذا" أو "الهو" ، يقوم باستقبال
حاجات الجسد البيولوجية فتسبب له حالة من تزايد الطاقة ، وتنتقل به من مستوى طاقة أقل إلى وضع استثارة وهو وضع غير مستقر ، مما يدفعه إلى محاولة العودة وفق مبدأ يدعى مبدأ اللذة ؛ إن نظام الهو لا يدرك سوى عالمه الداخلي ، سوى الألم المتحقق بسبب تزايد الطاقة ، سوى اللذة المتحققة جرّاء عودته للوضع المستقر ، هو كينونة لامنطقية ولاأخلاقية بل أنه لا معنى لهذه المفردات في عالمه.


في فترة لاحقة يبدأ نظام آخر بالتوالد والتمايز عن الهو ؛ نظام "الأنا" ، ويبدو أن هذا النظام ينشأ من التفاعل مع الواقع الخارجي ، إنه بصورة ما ابن هذا الواقع يعمل حسب مبادئه ، وهو وسيلة التواصل بين الهو والعالم الخارجي ، ففي اللحظة التي تكون فيها غريزة الجوع هي التمثيل السيكولوجي داخل الهو لنقص الطاقة البيلوجي في أنسجة الجسم يصبح البحث عن الغذاء مهمة الأنا ، يقوم الأنا بالتفكير في الطرق الواقعية التي توصله إلى الطعام عبر وضع خطة مثل الصعود إلى أعلى شجرة مثمرة أو الذهاب إلى المطبخ أو المطعم أو ربما سلب أحد المارة إذا ضمن السلامة بعد القيام بالفعل ، يستخدم فرويد مثال الفارس لتوضيح العلاقة بين الأنا والهو ، فالفارس (الأنا) يحاول توجيه القوة الهائلة التي يمتلكها الفرس (الهو) ، لكن ذلك لا يعني أن الفارس في مأمن من لحظة هيجان يفقد فيه السيطرة على الفرس ، في النموذج يتوجب على الأنا أن يتحرك ضمن ثلاثة اعتبارات ؛ الاحتياجات الإلتذاذية للهو من جهة والمتطلبات اللامنطقية للأنا الأعلى وإكراهات الواقع .


في الطفولة المبكرة جدا يشرع الأنا في تحقيق رغبات الهو دون وعي "أخلاقي" ، في حين يمارس الأبوان (المجتمع) نظاما من الثواب والعقاب على السلوكات (المسالك)الحسنة والسيئة ، وذلك يؤدي إلى تكوين الأنا الأعلى والذي يكون عبارة عن نظامين جزئيين ؛ الوعي (الضمير) والذي ينتج عن عمليات العقاب ، والأنا المثالي الناتج عن عمليات الثواب ، يستدمج الأنا الأعلى هذه الممارسات ليصبح بعد ذلك هو الممثل القيمي لأخلاق المجتمع ومثالياته كما يطرحها المحيط المباشر، الأنا الأعلى هو النظام الثالث في النموذج الفرويدي ، إنه بصورة ما جهاز الرقابة الذي يحصي أنفاس الأنا ويدفعه إلى ممارسة كبت على رغبات الهو الأبيقورية من خلال إرسال دفعات الإحساس بالذنب أو النقص في اللحظة التي يفكر فيها الأنا بالقيام بسلوك يتعارض مع العالم المثالي للأنا الأعلى .


إن الأنا الأعلى كينونة لامنطقية وغير معنية بالواقع ، وما يهمه هو مثالياته التي يحاول فرضها على حساب الأنا والهو ، وهو بذلك يتشابه مع الهو في اللاواقعية ومع الأنا في محاولة فرض السيطرة على السلوك ، إن هذه الطبيعة القامعة للأنا الأعلى ضرورية لحفظ المجتمع والإبقاء على بنيته متماسكة ، إنه الجزء الجماعي في الفرد ، وهو الذي يبقي الصلة متوهجة على نحو سلمي بين الأفراد، حيث توفر تواطئا قبليا على ما هو مقبول وما هو مرفوض ، وفي اللحظة التي يقمع الأنا الأعلى فيها غرائز الهو يفتح أفقا للتواصل المشترك مع الآخرين من نفس المجتمع .


ذلك هو الكائن حسب فرويد وحسب هذا العرض المبتسر الذي أسوقه للنظرية والتي حاولت تبسيطها إلى الحد الممكن ، إن العالم النفسي للإنسان يقوم على ثلاثة أنظمة هي : الممثل الغريزي (الهو)، والممثل القيمي (الأنا الأعلى)، وجهاز الإدارة الواقعي (الأنا).


الشديد الوضوح هو أننا أمام صراعات مستمرة بين هذه الأنظمة ، قد تكتب الغلبة فيها لأحد هذه الأنظمة فيسم الكائن بسماته التي تظهر في السلوك ، الإنسان الطبيعي – العادي أو الغالبية الكبرى - هو من يمتلك أناه القوة بحيث ترضي الهو دون أن تزعج الأنا الأعلى ، بصياغة أخرى ؛ لو مثّلنا هذه الأنظمة بيانيا بثلاث دوائر متداخلة لبدت دائرة الأنا أكبر من لِدَّاتها ، بلغة أكثر تبسيطا - على حساب المعنى - من يستطيع التوفيق بين مبدأ اللذة والمبدأ الأخلاقي.


ملاحظة قصيرة ومهمة على ما سبق هي أن هذه الأنظمة ليست متمايزة بالدرجة التي تظهر في هذا العرض ، إنها متداخلة أكثر مما قد نتصور!ملاحظة أطول على ما قد يلحق هي أنني لن أمارس دورا من أدوار التحليل على كائن محدد ماثل أمامي بل كائن افتراضي ، أعرض سيرة مفترضة وإن لم أنجح في ذلك فيكفي أن تتخذ النظرية وسطا تعبيريا شارحا (اللغة الوسيط) ، بالطريقة ذاتها التي نستعير فيها مصطلحا من حقل معرفي معين للتعبير عن ظاهرة لكن ما أستعيره هنا هو نظرية (عدة مصطلحات).


مسار تطوري


يوظف الأنا جزء من طاقة الهو في تطوير وتقوية العمليات المنطقية الواقعية ، في مجتمع يقيم شبكة الحقيقة الخاصة به على مفاهيم غير مادية ، امتدادات غيبية من نوع ما ، فيما تُسْتدمج هذه الأخيرة في بنية الأنا الواعية على أنها جزء من الواقع ، ويظهر ذلك في ممارسات خارجية مثل - والأمثلة كثيرة وإن اخترنا على حذر - الاستشفاء بالطلاسم السحرية وما شابه مما يستتبع المنظومة المفهومية الغيبية للمجتمع ، في حين يُنمّى الأنا الأعلى على هيئة مدعومة من قبل هذه الشبكة المفهومية وإن بانفصال في الصورة والآلية ، حيث يستدمج الأنا "الواقعيَ" في حين يستدمج الأنا الأعلى الأفعالَ القامعة (العقاب) والمثالية (الثواب).


ما يحدث هنا هو تطابق بين الواقعي والأخلاقي .. إن الأنا يحفظ الكائن بعيد عن حتفه ، وبالتالي فما يشكل خطر واقعيا مثل شفرة سكين أو أفعى أو شرطة مكافحة الجرائم يدفع الأنا للانحياز بالكائن عن التهديد ، وبالمثل في الواقعي الغيبي مثل ساحر أو رماد أو جني أو العذاب أو.. أو ..الخ ، كل ذلك يوجب على الأنا حفظ الكائن من الخطر المحتمل .


وفي حين يجد الأنا مبررات وجهته الأخلاقية (الاحترازية) من خلال قانون تجنب الألم "الواقعي" ، فإن الأنا الأعلى - الذي لا يدرك فنون الجدل ولا المنطق - والذي يطور ويستدمج تحريمات ومثاليات المجتمع يتوقف عن التطور بسبب اختفاء السلوك اللاأخلاقي ، السلوك المقموع سلفا من قبل "واقع" الأنا الغيبي ، وينصرف المجتمع عن ممارساته المربية بسبب حصوله على احتياجاته من الأنا ، نستطيع القول أن الأنا الأعلى موجود ضعيف قوي بغيره .


في ظل هذا القمع المشترك من قبل الأنا والأنا الأعلى يكبت "الهو" بشدة ، مما يسمح للأنا بتطوير أكبر لعملياته المنطقية من خلال الانغماس في معارف ذهنية "واقعية" ، وسيبدو الكائن متمثلا أكثر لمثاليات المجتمع ومنغمسا أكثر في تفاصيلها ، وقد يلمح بعض التناقضات في الواقع الغيبي لكن دفعات الأنا الأعلى ما تزال قادرة على رده إلى الطريق القويم.


صدمة اكتشاف


في المجتمع الذي نتحدث عنه يبدو فيه الواقعي المادي مختلطا بالغيبي ، وهو ليس مجتمعا بسيطا البتة ، بل متطور إلى حدود هائلة فيما يخص بناه المختلفة ، وعندما يكون هذا المجتمع متسع جغرافيا ومتصل إعلاميا ، يكتسب مثقفنا - موضوع الحديث - وعيا مبنيا على المقارنة ، حيث تتداخل ثقافات عدة تتقاطع مع تصوراته في المستوى ذاته ، إن هذا الوضع الذي نتحدث عنه يحدث الآن بصورة مذهلة كما كان يحدث في أوج الحضارة العباسية ، إنها فقط مسألة أدوات سريعة وبطيئة ، إن وعي المقارنة بين المجتمعات معرفيا يظهر عند مفكرين عدة بصورة واضحة كما في كتابات المعري مثلا .


شبكة المفاهيم المكتملة عند مثقفنا تواجه إعادة تقييم على ضوء معارف منتجه من قبل مفكرين ينتمون لمجتمع آخر ، إنه نمط من النقد الذاتي الذي يتوسع فيه المثقف رأسيا وأفقيا في الواقع الذهني ، إنه توسيع للرؤية تماما كما يحدث للكائن الذي يدخل مجتمعا مختلفا فيشهد بأم عينيه أن محرماته الاجتماعية مثاليات هذا المجتمع وذلك يجعله في وضع رفض أو تبني أو قرف أو حيرة أو تفوق أو ضعف .


ما يحدث للكائن الذي نفترضه الآن هو إعادة فلترة لشبكة الحقيقة الخاصة به ، رفض جانب من الحقائق التي لم تعد واقعية وسينتهي به الأمر إلى اكتشاف أن المشترك بين المجتمعات المعرفية المختلفة هو ذلك البعد المادي الصِرف ، وسنفترض أن ذلك سيؤدي إلى تعميق رؤية مادية وسينتج من ذلك إعادة بناء لجهازه المنطقي ولمنظومة إنتاج الحقائق .


حرب الأنظمة الداخلية والتعزيزات الخارجية


ما من شك أن انهيار شبكة المفاهيم الذهنية التي تمثل الحقيقة كما أملاها المجتمع لن تمر بسهولة هكذا ، حيث أن هناك مستفيدين هما النظام الاجتماعي المحلي وحليفه الداخلي الأنا الأعلى ، وبما أن الأنا الأعلى لا علاقة له بالوعي المنطقي ولا صراع المفاهيم وإنما بالمحرمات والمثاليات ، وفي حالة وجود أنا أعلى ضخم فإن تغيرات الأنا على مستوى الممكنات والمُهلكات لن يؤثر في السلوك الخارج حيث يظل الأنا الأعلى محافظا على إرسال دفعاته القامعة وسيدرك الكائن بالطبع أنه متناقض في العمق ، يتبنى فكرة على المستوى الذهني يعجز عن تنفيذها على مستوى السلوك ، وتلك حالة مشهورة في أفراد المجتمعات المعاصرة المواجهة بمد حضاري خارجي ضخم ، وفي حالات معينة سيظهر الصراع على السطح على هيئة سلوكات عنادية تستهدف قيم المجتمع فيما هي في الأصل تحاول مواجهة القلق المثار والمشاغب من قبل الأنا الأعلى كما أن المجتمع وبسبب اللحمة الرابطة بينه وبين الأنا الأعلى سيمارس دورا قامعا هو الآخر ضمن آليات الإقصاء الضرورية من أجل إبقاء المجتمع متجانسا فيما لا يبصر الكائن حجم الخطر القادم من الخارج بسبب الحجم الأضخم للخطر القادم من الداخل وهذا يدفع الأنا إلى إعادة التواصل مع الهو المكبوتة سابقا وسيبدو هذا الكائن عنصرا قلقا ومثيرا للمتاعب على الدوام ، إنها حالة ثقافية أكثر منها زخما سالبا وهي ضرورية من أجل التغيرات المستقبلية الدائمة للمجتمع .


سيظهر هذا السلوك الظاهري على حالة المثقف الذي نتحدث عنه في البداية على الأقل ، وكما أسلفنا فإن أناه الأعلى ضامرة ، خصوصا فيما يتعلق بنظام الوعي الناشيء عن آليات العقاب المجتمعية في حين يبدو نظام الأنا المثالي أكثر ضخامة وهو ما سيمارس دورا قامعا أكثر من خلال دفعات الشعور بالنقص عن ملاقاة ما هو مثالي على مستوى السلوك ، سيقوم الأنا بالاستعانة بالهو من أجل تدبيج دعامات صادة لدفعات الأنا الأعلى وبتطوير آليات تلقي احتوائية ، لا من خلال الشبكة المفهومية المنهارة بل من خلال النظام الجديد ، وهو ما يستدعي بناء أنا أعلى جديد على الأقل عبر الانغماس في الإنتاج المعرفي والتنظيري الذي أفترض في الأساس أنه عمل المثقف .


بالطبع فإن الطابع النكد والمشاكس الذي سيسم سلوكه ، سيتم تطويره من خلال تجارب المواجهة وهو مفتوح على عدة احتمالات ؛ نفيا دائما أو عملية مصالحة مبنية على مقايسات خاصة أو ربما رؤية عدمية أو برجماتية من نوع ما .