ليس هذا حديثا في الرياضيات وليس حديثا عنها وإن بدا لك ذلك ، إن ما يشغلنا هو الحديث عن البنى المعرفية على نحو مقارن بين العلوم ، إنه حديث عن وعلى المنهج ، عن آلة وآليات الإنتاج وهو يطرح فكرة واحدة ووحيدة تقريبا هي انبناء المدرك المعرفي على اللامدرك الحسي، أو الإجابة على سؤال : على أي شيء يقف العقل؟، فيما تبدو الأفكار الأخرى تواردا حرا.
إن الترابط العلائقي بين المنتجات المعرفية المختلفة وترابطها أيضا مع النشاط الثقافي البشري مسلمة مبدئية في الحديث ، من أجل ذلك لا أجد أي غرابة في أن تظهر الحداثة بعد أن يصبح الإنسان مدار الأشياء (جاليليو ، ديكارت) ومتوازية بإصرار مع إدخال أفكار النسبية ومفاهيم الزمن (اينشتاين) ولا أن يبدو فرويد ويونج نتاج البنى الميكانيكية، ولا أن تأتي ما بعد الحداثة لاحقة لنظريات الكوانتم وأفكار العشوائية واللاتحديد، وإذا تسوغ الوجودات المعرفية والتصورات المادية واشتراطات مناهج الحقيقة أنشطتنا المعرفية الثقافية والنفسية والاجتماعية وتخترق اليومي والمعاش.
ما يبهر فعلا هو قدرة أنظمة المعرفة البشرية على "كبسلة" اللامدركات وتسييسها وسياستها كبنية صنمية (مفيدة أوضارة) ضمن تفاعلاتها الداخلية، ربما لأن الإدراك البشري إدراك تناظري لا يقع على الحقيقة إلا بقدر تشابهها بآخر - فنحن لا ندرك الزمن مثلا إلا بمقارنة الحوادث البسيطة وليس غريبا أيضا أن تأتي نماذج الذرة الأولية الغير مشاهدة شبيهة بالأنظمة النجمية أو النظام الشمسي فقصارى جهد النموذج العلمي هنا الاتساق لا الحقيقة- وهو لا يدرك الغيبيات إلا إذا قاسها بوجود مادي مختبر حواسيا وهو يمنح كل معنى مجرد صفة المادي وخصائصه ليصبح مدركا ، وعليه فإن كل جهودنا هي في صنع عالم معادل لا عالم حقيقي لأن الأخير متعال وغائب، والموضوعي المطلق بهذا المعنى (لانتحدث عن الموضوعي النسبي أو البشري) مستحيل (التفكير فيه) لأن أجسادنا تتدخل بالضرورة في رصف تصوراتنا وعالمنا المعادل.
إن هذا الحديث أيضا ليس أكثر من مذكرة شخصية لمشروع يستهلكني منذ سنوات حول الحقيقة بإطلاق ومزالق المعرفة وحدود المدرك البشري يبدأ فيما يبدو بتجاوز الأيديولوجي وينتهي حتى الآن بمساءلات حول المنهج حول الممكن والمستحيل التفكير فيه، وحول نهايات وبدايات المعنى واللامعنى، وهو وإن بدا متأخرا عن الراهن المعرفي العالمي إلا أنه يبدو غريبا حسب ما أظن على المحيط المباشر أو المحلي.
ويبدو واضحا لي الآن أن كل معرفة عقلية تكشف عن لا معقولاتها عند الذهاب بالتحليلات إلى نهاياتها أقول يبدو واضحا أن كل عقل ينبني على لاعقل وعندما أتحدث عن الرياضيات أتحدث عن آخر بنى الحقيقة العقلية صلابة بعد المنطق (إن جاز لنا الحديث عن المنطق والحقيقة معا لا عن الصحة والخطأ فقط كما أني أدخر المنطق ليكون مسوغ وآلة نقد الرياضياتي) ولا أجد مبررا لي في الحديث عن الحقيقة إلا تصوري السابق وربما الساذج لوجود العقل المعرفي المطلق ، وفي لحظة مقارنة مقتضبة تكون الفيزياء مبنية مثلا على فكرة المادة اللامعرفة في الأساس وكأنما هي تتكدس تراكميا بين اللامعرف المتناهي في الصغر (المادة) واللامعرف المتناهي في الكبر (الكون) ،هي بمعنى ما معرفة ترزح بين غيبين ، كما أن منتجات معرفية أخرى تقدم النمط نفسه من الانبناء على اللامدرك أو "المستحيل التفكير فيه" .
وربما لأن الفيزياء تسرق شرعيتها من الرياضيات وإذا لا تستطيع إعطائها ما لاتملكه أصلا وربما لأن العلوم المادية الأخرى تفعل ذلك جاز لنا هذا النقد المزدوج.
أذكر اندهاشي لحظة الخروج من البنية الاقليدية للهندسة – وقد كنت اقليديا من قبل – الذهول الذي لا يفوقه إلا اكتشاف المسلمات الذكية والساذجة الأولى للعالم الاقليدي ، لا تعنينا اللااقليدية في تركيبها الأكثر تعقيدا لأنها تقدم طرحا أكثر تطورا بل لأنها- وفي وضع تناظري مع الاقليدية - تشي باحتمالات الرؤية الممكنة والمتاحة لاقليدي مغلق أولا وبمجادلة المسلمات الأولى بالتالي ثانيا، ولأنها لغة المعرفة المادية فتطورها ونقدها بهذا المعنى يحيل إلى إمكان استكشاف مادي أوسع للعالم، ولعله السبب وراء إضافة بعد رابع للأبعاد الأخرى (المحنية أبدا) حسب ما نعي الآن .
وأذكر أننا كنا في سني الشغف الأول بالرياضيات نقيم جدلا حماسيا وطفوليا ونكاتيا بعض الشيء حول إشكالات النقطة الهندسية هذه الكينونة السحرية وبسذاجة من لا يدرك الخلل المنطقي في الحديث كانت النقطة هي الكينونة اللاكائنة أو اللاموجودة ( جسم بلا أبعاد!)، وفي عالم( هندسي) ذو بعد واحد تكون هي الامتداد الذي بلا طول أو الامتداد غير الممتد حيث الطول هو الصفة الوحيدة التي توصّف هذا العالم ولك أن تتصور صفات تلصق بالنقطة مثل "الصفر" "اللاشيء" " العدم" "طاقة الاختفاء" " أضعف الأخوة " ، وبالتالي يكون الخط (الامتداد) مجموعة من "العدومات " الطولية و"عدم" واحد عرضي وبين الواحد والاثنين في خط الأعداد يقبع عدد لا نهائي من النقاط أو "اللاموجودات " أو "اللاأشياء".
إذا كانت القطعة المستقيمة (تصور قطعة مجردة غير مادية) طولا محدودا ومنتهي فإن تقسيمها إلى قطع صغيرة متساوية يعني أيضا أن هذه القطع الصغيرة هي محدودة ومنتهية ، وإذا كانت هذه القطعة المستقيمة تتكون من نقاط فإن هذه النقاط تمتلك أطوالا منتهية لكنها بالتالي تصبح قطعا لها ما للقطع من خواص وصفات ( الامتداد)، وحتى تكون نقطا يجب أن لا تشبه القطع، أي أن لا يكون لها طول، وتكون القطعة بالتالي مكونة من عدد لانهائي من اللاأطوال أو الأطوال الصفرية، لكن في هذه اللحظة بالذات لا تعود القطعة موجودة أصلا لأن صفر + صفر + صفر يساوي صفر حتى ولو أضاف القارئ صفرين آخرين ، لكننا أمام فكرة أن عددا لانهائيا من الأصفار يساوي واحدا وهو ما لا يمكن عقلنته إذ هو لا معقول أو لا متصور بالضرورة، ونقف بالتالي أمام نمط من أنماط الخرف التصوري أو أمام لا عقل يتوجب علينا تقبله على نحو برجماتي من أجل النتائج اللاحقة.
وربما تلاعب البعض مدعيا أن الدائرة هي أحد أنواع المضلعات، مضلع به عدد لا نهائي من الأضلاع المنتظمة (النقاط) التي تصنع فيما بينها زوايا مقدارها 180 درجة ضاربا بالتعريفات الأولى عرض الحائط.
وقد نغرق في استنتاجات أخرى قبل أن ننتبه إلى الخروقات المنطقية التي نرتكبها ، قبل أن نعرف أنه لا يمكن الحديث عن الطول عندما تكون النقطة هي " الموضوع " لأن الطول هو حدث بعدي والبعدي لا يمكن أن يبرهن به على القبلي بل ما يحدث هوالعكس دائما بطريقة أخرى إن القضايا المركبة الناشئة عن قضايا أو قضية أبسط لا يمكن أن تستخدم في تعريف هذه الأخيرة وسنبدو كمن يتحدث عن حجم الدائرة في عالم من بعدين ،العالم الذي لا وجود لفكرة الحجم فيه، وبما أنه لا توجد فكرة أبسط من النقطة ولا تنشأ هي عن قبلي فإنه لا يمكن اعتبار النقطة موضوعا رياضياتيا ولا يمكن مناقشته من قبل الرياضياتي ( من أجل ذلك لم يكن هذا الحديث عن الرياضيات) ، والكلام على فكرة "العدد" هو من قبيل الحديث على النقطة.
إن هذه الفكرة الأبسط التي لا قبْل لها هي ما يسميه الرياضياتيون أو المناطقة بالمسلمة والتي هي من وجهة نظر شخصية خطأ في البدء يرجع لإمكانات الكائن الحسية وهو ليس موضع نقاشنا الآن، لكننا نشدد على هذا الاتكاء الواضح على اللامعرف أو اللامدرك أو اللامعقول .
وإذا كان الحديث عن أكثر المعارف تجريدا وصفاء فإن العلم الذي ينبني على الرياضيات ينبني على لامعقولاتها أيضا، والحديث عن المعرفة البشرية يتخذ السيرورة ذاتها، فكل معرفة هي غير معرّفة في الأصل وكل عقل يتكئ على لامعقولاته .
إن هذا اللامعقول ( الرياضياتي) يقدم حلولا عقلانية لمشاكل معاشه وينتج أدوات فائقة للتعامل بسهولة مع قضايا غاية في التعقيد ، وإذا كيف ينجح اللاعقل أو اللامعقول في اكتناه المعقول ،وكيف ينجح الكائن في عقل اللاعقل ، كيف تحدث هذه الرحلة من اللامعنى إلى المعنى ، وكيف يبدو المعنى مفرغا - عند التفكيك - من كل معنى ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق