ما الشعر؟
يقفز نقاش ساخن بين اثنين، وفي دمائمها تسري معززات أدرينالية لتأجيح جذوة النقاش، الشعر هو كذا وكذا فيرد الآخر بل هو كذا وكذا، هناك أنصار الكلاسيكية وهناك أنصار الحداثة، ويستمر النقاش ويتكرر في اليوم التالي، لم يصل أحد منهم إلى اتفاق، ذلك أن الشعر عصيٌّ على التعريف دائما، كما هو طيّعٌ للأهواء والرغبات دائما.
يرى البعض أن الشعر هو الهادف، والآخر يرى في العبث ضرورة، وعند العاشق الشعر هو الغزل، والطامح يرى الشعر في الحماسة، ويرى آخر أن شعر الفكاهة لا يستحق اسم الشعر، فيما تعلو صيحات الجماهير عند قراءته، يرى الشاعر الوجودي في الشعر مَسْربا إلى خفايا الذاتِ وأسرار الآباد، فيما يصل البعض إلى بواطن اللذة من خلال ترديد الأهازيج الشعبية، وفي أعماق الوجد يذوب مريد صوفي يردد أوراد جلال الدين الرومي.
ليس الشعر الوزن والقافية، ليس الشعر الصورة، ليس الشعر الحكمة العميقة، ليس الشعر الموسيقى الداخلية، ليس الشعر البلاغة، ليس الشعر السحر، ليس الشعر اللغة، ليس الشعر المعنى، ليس الشعر النثر، ليس الشعر الحكاية، ليس الشعر الأهزوجة، ليس الشعر الأغنية، ليس الشعر كل ذلك ، لكن الشعر هو كل ذلك أيضا.
إن مجرد محاولة الوصول إلى تعريف مشترك يتفق عليه الناس حول الشعر من المستحيلات، بالطبع كل منا يمتلك تعريفا للشعر، قد يحسن التعبير عنه أو قد تخونه الكلمات، تعبرنا تلك الشحنات المركّزة التي تطلقها الكلمات من عقالها، لكن لكل منا شحناته ولذاته، ورغباته وأوهامه، تدخل عوامل الثقافة والعوامل النفسية كعوامل حسم، وتبرز العادات اللغوية كطرق خفية تقودنا إلى مباهج اللذة اللغوية، وترسم نظرتُنا للوجود وفهمنا للأشياء من حولنا خياراتنا الشعرية.
بين الشاعر والمتذوق تنشأ علاقة تلقٍ سرية، يصنع الشاعر الرسائل والإشارات فيما يشرع المتلقي في فك هذه الشفرات، ويبصرها بقدر ما يمتلك هو من طاقات وآلات، يتقاطع مع الشفرة أو ينفر منها، يصنع هو فهما خاصا للشعر وينمو هذا الفهم معززا بالتجارب ومُنارا بالعلاقات الحميمة التي يقيمها مع الأشياء في الماحول، ثم إذا قيل له هذا هو الشعر، قال الشعر شيء آخر عرفته وخبرته ، ليس الشعر كما تقولون.
وهكذا عندما يقول أحدهم ولى زمن الشعر، ومات الشعراء، يجب أن نسأله : ما الشعر؟ وما الشعراء؟ من المؤكد أنه صادق القلب فيما يقول، لكن على الأرجح من مات هم شعراؤه هو، وما حدث هو أنه ليس في الأحياء من يقول الشعر كما يتصور هو الشعر.
الشعر كائن يتسرب إلى كل الطبقات، فهناك شعر للفقراء وشعر للأغنياء، وهناك شعر للمثقفين وشعر للرجل العادي، هناك شعر للملوك وشعر لأطفال الشوارع، هناك شعر للفقهاء وشعر للنحويين وشعر للفلاسفة وشعر للبدو وشعر لسكان الحواضر، هناك شعر للمُجّان وأهل اللهو وشعر للعُبّاد وأهل الطرائق، هناك شعر إنجليزي وفارسي وعربي وروسي، هناك شعر أسود وشعر أبيض وشعر ملوّن، هناك شعر يُكتب، وشعر يُقرأ، وشعر يُغنّى، وشعر يُنشد، وشعر يُدندن، وشعر يُتمتم، وشعر يُهمس، هناك شعر يحيى وشعر يموت، هناك شعر يتكدس فوقه الغبار وشعر يكتب في الواجهات الأكثر إضاءة، هناك شعر يُدرّ الأموال وهناك شعر يحصد رأس صاحبه.وإذاً عندما يقال مات الشعر، فأي شعر مات؟.
المجتمع مجتمعات، هناك مجتمع لرجال الدين، وهناك مجتمع للسماسرة، وهناك مجتمع للتجّار، هناك مجتمع للكتّاب، ومجتمع للسياسة والإدارة، في داخل كل مجتمع صغير ينشغل الأعضاء بتفاصيل مجتمعهم، ويحدث غالبا أن تنشأ طبقية بين هذا المجتمع الصغير وبقية المجتمع الأكبر، فيكون أعضاؤه من الخاصة والآخرين من العامة، فهذا فقيه وذاك من العوام، وهذا مثقف وذاك رجل شارع، وهذا يمتلك شركتين وذاك مجرد رجل عادي، وهي طبقية ضرورية، لترابط المجتمع الصغير ونموه، والذي بدوره يخدم المجتمع الأكبر، تتداخل المجتمعات الصغيرة في بعضها، ويمنح البعض عضوية في أكثر من واحد، ويستمتع البعض بنوعين من الشعر.
في مجتمع الكتابة مثلا، تُغلق حدقة الرؤية أجفانها عن كل أدب يكتب أو يقال خارجه، فالشعر هو ما يكتبه هذا المجتمع، وهكذا لا يستطيع رجل الشارع كتابة الشعر وما يكتبه ليس شعرا، وهكذا يموت الشعر عادة بعد رجال المعلقات، ويموت بعد المتنبي وبعد شوقي وبعد درويش، حتى لو كان البدو في الصحارى لا يدسون في رواحلهم هجائيات كافور ولا الشوقيات ولا سرير الغريبة، متعة الشعبي بأغنية لراشد الماجد أو نانسي عجرم هي متعة مزورة فيما الاستمتاع برباعيات الخيام هي المتعة الحق، لست أصادر عليه هذه المتعة بل أشاركه فيها، غير أنني لا أملك القوة على مصادرة متع الآخرين بأي شعر مُغنّى، من أي ثقافة وبأي رؤية كانت، وأتمنى عليك قاريء العزيز أن توافقني فيما أقول.
وإذاً يتوسع معنى الشعر أو لنقل تعاريف الشعر ليشمل كل ما ينشد ويغنى، ولست أنا الملوم على اعتيادك الشعر باعتباره ما كان عربيا فصيحا ومكتوبا بحبر شهد له النُقّاد في الأصقاع، الشعر يتسع للعالم والجاهل، هل أخبرتك أن الأميين يستمعون للشعر فينتشون أيضا، لست الملوم إن كان لا يتوفر في قلبك متسع للإعتراف بوجود كائن آخر يعشق الشعر الذي لا تسميه شعرا، ولا تقرّه ولا تقرأه.
ينتشر الشعر في القنوات الفضائية، وينتشر في الأشرطة والأقراص، وفي الشبكات العنكبوتية، وفي أجهزة المحمول، في أجهزة الراديو وفي السيارات والطائرات، في القصور العالية وفي الأكواخ القصية، يتفوق على كل نشاط لغوي آخر أنتجه الإنسان، وتتشارك فيه حيوات تفصلها مئات الكيلومترات، وبشهادة الشيخ الأصفهاني يصبح الغناء شكل من أشكل الشعر، عندما تقول مات الشعر، فكّر قليلا قد تكون واقعا تحت وطأة مجتمعك الصغير الذي لا يكشف لك الصورة كاملة.
تميل الجموع إلى الحسي والمباشر، وتذوب في الجماعة كل الأصوات الصغيرة ، للجموع عقلها الخاص ووعيها المشترك، ومن هنا ينشأ الشعبي، ويزدهر ، ويصبح هو الصوت، وبقدر ما تتحدد علاقات هذا العقل وقوانينه يتحدد الشعر الأكثر ذيوعا، وبقدر ما ينمو هذا الوعي ينمو معه حس مختلف بالأشياء.
في القرن العشرين بدأ عصر مختلف، عصر انفجار معرفي، تتكاثر المعلومات فيه كالبكتيريا، وتنمو باطراد في جميع الجهات، ثم حدثت ثورة اتصال فائق، وبدأت المعلومات والمعارف تسبح في أنفاق خاصة إلى كل بقعة على الأرض، وخارج الأرض أيضا، إنه زمن خارق، يعزز من نشوء المجتمعات الصغيرة، ويصل بينها، وهكذا تصبح التعددية في المجتمع الجغرافي الواحد أمرا أكثر كثافة، والهوة أكثر عمقا، وينعكس ذلك على الشعر، ينشأ في كل مجتمع شعره الخاص، ومباهجه المختلفة، وعليه يصبح من الضروري أن نقبل الاختلاف والمختلفين، لم يعد من المنطقي التفكير برؤية واحدة، وافتراض أن لا شيء سواها، ولا صحيح إلا هي، لا يُفترض بك أن تؤمن بفكرتين متناقضتين، احتفظ بواحدة وأقبل فكرة أن آخرين قد يعيشون بالفكرة الأخرى، ليس الأمر معقدا، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالشعر.